الصفحة الرئيسية  ثقافة

ثقافة بألوان "رقوج العرض": مسرح الحمامات ينسج من خيوط الحلم عباءة الأمل

نشر في  14 جويلية 2025  (17:03)

 في ليلة الجمعة الحادي عشر من جويلية 2025، اهتز مسرح الهواء الطلق بالحمامات بنبض الحياة معلنا انطلاق الدورة التاسعة والخمسين لمهرجان الحمامات الدولي بعرض "رقوج العرض".

"أنتم تهدوا ونحن نعاود نبني... الأحلام ما تموتش، تو نبنوها ونبنو ألف حلمة وحلمة"، عبارات حملتها نسمات بحر الحمامات، وظلت عالقة في أذهان الحضور، كصدى لروح العمل الدرامي الذي أعاد الأخوان عبد الحميد وحمزة بوشناق صياغته في قالب مسرحي.

لأكثر من ساعتين ونصف، عاش الجمهور الغفير الذي غصت به مدارج مسرح الحمامات تجربة حسية وفكرية شاملة، مزجت ببراعة بين التمثيل، الموسيقى الحية، الكوريغرافيا، والسينوغرافيا المبتكرة، لتحكي قصة "رقوج" بأسلوب ينبض بالحياة.

لم يكتف العرض بنقل مشاهد من المسلسل الأصلي عبر شاشات عملاقة مثبتة على الركح، بل تجاوز ذلك إلى إعادة خلق قرية "رقوج" الوهمية على خشبة المسرح. بمشاركة حوالي 120 فنانا وتقنيا من ممثلين وموسيقيين وراقصين، تشكلت لوحة فنية متكاملة، حيث نسجت لوحات تعبيرية تجمع بين الحركة الديناميكية والإضاءة المبتكرة، واستخدمت ديكورات بسيطة على شكل هياكل خشبية متحركة، صُممت لتجسد شوارع القرية وأزقتها، مع إضاءة ديناميكية تحولت إلى لوحات ضوئية تعكس تقلبات الأحداث والمشاعر.

هذه العناصر البصرية كانت شريكا حيا في سرد القصة، حيث بدت القرية وكأنها تتنفس مع الشخصيات. من جانبها، أضافت الكوريغرافيا التي صيغت بعناية من قبل أميمة المناعي بُعدا دراميا عميقا، حيث عكست صراع الشخصيات وانفعالاتها في حركات متناغمة تماهت مع إيقاعات الموسيقى الحية التي قادها المايسترو راسم دمق ببراعة استثنائية.

 في "رقوج"، كانت الموسيقى بمثابة روح العرض، فقد ألّف حمزة بوشناق مقطوعات مستوحاة من الموسيقى التصويرية للمسلسل، مع إضافة لمسات جديدة تعكس الطابع المسرحي، فيما رسمت الإضاءة لوحات ضوئية ساحرة، تحولت معها خشبة المسرح إلى فضاء سينمائي يحاكي الواقع ويتجاوزه. التناغم المتقن بين الموسيقى الحية والسينوغرافيا خلق تجربة بصرية وصوتية متكاملة، حيث ساعد التوافق بين الإيقاعات الموسيقية والإضاءة الديناميكية والديكورات المتحركة على إثراء المشهد المسرحي، مما جعل الجمهور يعيش اللحظة بشكل أعمق وأكثر تفاعلا.

هذا التفاعل بين الصوت والصورة لم يقتصر على دعم السرد فقط، بل وسّع من أفق التأويل الفني، محولا خشبة المسرح إلى فضاء حي ينبض بالحياة ويثير الخيال، ويعزز التواصل العاطفي والفكري مع المشاهدين. لم يكن "رقوج العرض" مجرد استعراض فني، بل رحلة عاطفية وفكرية، حيث ترجمت الكوريغرافيا والموسيقى والحوارات أفكارا ومشاعر معقدة إلى لغة فنية تنطق بالجمال والعمق.

استند النص المسرحي إلى السيناريو الأصلي للمسلسل، مع إعادة صياغة بارعة لتتناسب مع الإطار المسرحي. حيث احتفظت الحوارات بروح الكوميديا السوداء التي اشتهر بها "رقوج"، مع إبراز قضايا اجتماعية مثل الفساد، الظلم الاجتماعي، والصراعات العائلية. تم تقديم هذه القضايا بأسلوب يمزج بين السخرية اللاذعة والتأمل العميق، مما جعل العرض يسعى إلى تقديم نقد اجتماعي حاد ومؤثر.

لم يكتفِ العمل بإبهار الجمهور فنيا، بل حمل لحظات إنسانية تركت أثرا عميقا. من أبرز هذه اللحظات تكريم الفنان الراحل أحمد العبيدي "كافون"، حيث استخدم عبد الحميد بوشناق تقنيات الذكاء الاصطناعي لإحياء صوته وأدائه في مشهد مؤثر أبكى الحضور وأثار إعجابهم.

كما تضمن العرض تكريما للعاملات الفلاحات، تلك الأيادي العاملة التي تشكل عصب الحياة في لفتة تعكس الوعي بأهمية هذه الفئة وقيمتها في المجتمع. هذه التكريمات أضافت بعدا إنسانيا للعرض، وذكّرت الجمهور بقيم الوفاء والتقدير لمن يصنعون التاريخ بصمت.

"رقوج العرض" مزيج سلس بين التمثيل القوي، الموسيقى الحية، الرقص التعبيري، والسينوغرافيا المبتكرة، هو احتفاء بالحلم والإصرار، ورسالة حيّة بأنّ الأحلام، مهما تهدمت، يمكن أن تبنى من جديد.

سناء الماجري